كتب: د. شريف شعبان
بمناسبة مرور عام على صدور فيلم كيره والجن والمقتبس من رواية 1919 لكاتب أحمد مراد ومذكرات كل من عريان يوسف سعد ويحيى حقي ومصطفى أمين، يمكن لنا أن نتذكر شخصية البطل المصري أحمد عبد الحي كيرة، حيث أن هذه الأعمال هي الوحيدة تقريباً التي خلدت ذكرى البطل، لأن طبيعة حياة كيرة الغامضة كمناضل سري وجاسوس ضد الاحتلال الانجليزي وأحد أبطال الجهاز السري لثورة 1919 جعلت مصادر المعلومات عنه قليلة.
ولكن ماذا تعرف عن حياة البطل أحمد كيره؟
درس كيرة في كلية الطب بالقاهرة وكان دوره أن يمثل الطالب المصري الغير مهتم بالشأن السياسي والمحب للاحتلال كنوع من التمويه والتغلغل داخل أروقة الانجليز. ذكاء أحمد كيرة جعله يتعلم كيفية التنكر في أزياء مختلفة وإتقان لهجات عدة مثل أولاد البلد والفلاحين والأجانب. كما تمكن كيره من دخول معامل الكلية ويأخذ منها مواد تدخل في تركيب المتفجرات في أنابيب خاصة ويسلمها إلى اللجنة المختصة بصنع القنابل التي كان يشرف عليها الطالب أحمد ماهر الذي أصبح فيما بعد رئيساً لوزراء مصر عام 1944، وظل على هذا المنوال حتى انكشف اسمه ضمن اعترافات قتلة السير لي ستاك عام 1924، وبدأت المخابرات البريطانية في وضعه تحت المراقبة وأصبح أحد أهم المطلوبين.
حينها اضطرت قيادات الجهاز السري للثورة أن تهرب الفدائي كيره بجواز سفر مزور إلى ليبيا ومنها الي اسطنبول وظل مطارداً طيلة سنين. وهناك قابله الأديب يحيى حقي عام 1930 والذي كان يعمل موظفاً في القنصلية المصرية في اسطنبول وكتب عنه في كتابه “ناس في الظل” ولقبه “بعبع الانجليز”. وللأسف كانت نهايته على يد المخابرات الانجليزية سنة 1936 عندما رصدت مكانه وأرسلت ثلاثة من عملائها ونجحوا في استدراجه وقتلوه بخنجر ورموا جثته بجانب سور مدينة اسطنبول.
مثلما كانت بطولة أحمد عبد الحي كيره مجهولة لسنين طويلة لكونه بطل مقاومة متنكر طوال الوقت، نفس الظل مكثت فيه المناضلة دولت فهمي طيلة أعوام، والتي كانت عضوة في التنظيم السري لثورة 1919 المعروف باسم اليد السوداء.
حياة دولت فهمي
نشأت دولت في أسرة قبطية بقرية أبو عزيز في المنيا بالصعيد في الوقت الذي لم يهتم أحد بتعليم بناته، إلا أن دولت سلكت طريق التعليم وانشغلت بقضية تعليم البنات حتى وصلت لمنصب وكيلة مدرسة الهلال الأحمر القبطي للبنات (لاحظوا الهلال وقبطي!)، واستطاعت من خلال موقعها الوظيفى أن يكون لها دوراً هاماً في حشد اكبر عدد من النساء للتظاهر في ثورة 1919. ارتبط اسم دولت فهمي بعبد القادر شحاته (الجن) وهو احد المناضلين عندما نفذ عملية اغتيال محمد شفيق باشا رئيس الوزراء، لكن المهمة فشلت وتم القبض عليه. وأثناء التحقيق معه اعترف بالعملية لكن وصلته رسالة من دولت فهمى بأنها سوف تشهد على وجوده معها في بيتها أثناء تنفيذ العملية من أجل تبرئته.
وهكذا ضحت دولت فهمي بسمعتها بشهادة في منتهى الخطورة، لكن شهادتها انقذت رقبة عبد القادر شحاتة من الاعدام الفوري ومدت في روح المقاومة مدة. لسوء الحظ إن كاتب التحقيق فى النيابة كان من نفس قرية دولت، وسرعان ما أبلغ أهلها باعتراف ابنتهم المشين وأنها كانت عشيقة للطالب عبد القادر شحاتة، وتم استدراج دولت من قبل أهلها بخبر موت خالتها. ومع وصولها لقريتها قاموا بقتلها (لمحو العار المزعوم) دون أن يعرفوا حقيقة بنتهم البطلة! وقد تم تمجيد شخصية دولت فهمي في أكتر من عمل درامي زي سهرة تلفزيونية عن حياتها بعنوان: دولت فهمي التي لم يعرفها أحد من بطولة ممدوح عبد العليم وسوسن بدر من انتاج عام 1987، كما قامت التونسية هند صبري بتجسيد شخصية البطلة المصرية في فيلم كيره والجن بشكل رائع يليق بسيرة المناصلة القومية اللي ضحت بحياتها وسمعتها علشان المقاومة وماتت فداء مصر.
حكاية عبد القادر الجن
أما الضلع الثالث في مجموعة كيره الفدائية المعروفة باسم اليد السوداء كان البطل القومي عبد القادر شحاتة الشهير باسم الجن. وكان دوره متلخص في توزيع المنشورات في صعيد مصر وتحديداً في المنيا، وحكم عليه من المجلس العسكرى البريطانى في الواسطى بالإعدام رمياً بالرصاص، لكن خليل حافظ حكمدار المنيا ساعده على الهرب.
ارتبط اسم عبد القادر شحاتة ومصيره بمصير البطلة دولت فهمي التي اعترفت زوراً بإنه حبيبها كي تخلصه من حبل المشنقة بعد فشل عملية اغتيال محمد شفيق باشا، وكانت النتيجة إن تم تخفيف الحكم عليه في مقابل قتل دول فهمي على يد أهلها في الصعيد.
وكان عبد القادر شحاتة كان أطول المقاومين عمراً، فقد عاش حتى عام 1987 عن عمر 89 سنة، عاصر خلالها ثمرة نشاطه بجلاء الانجليز عن مصر والعدوان الثلاثي وحربي 67 و73، لكن اكبر صدمتين في حياته هما قتل زميله أحمد عبد الحي كيره ودولت فهمي. وكانت بطولات عبد القادر شحاتة ومساهماته الوطنية مصدر الهام العديد من الكتّاب، ومنهم الكاتب الصحفى مصطفى أمين فى كتابه (الكتاب الممنوع – أسرار ثورة 1919) اصدار عام 1963، كما قامت مجلة المصور عام 1969 بتسليط الضوء عليه فى تحقيق بعنوان الجمعيات السرية فى ثورة 1919، كما إنه كان احد ابطال رواية (1919) للمؤلف أحمد مراد، وقام بدوره احمد عز في فيلم كيره والجن، وخلد عبد القادر شحاتة بنفسه مسيرته عام 1963 عندما كتب مذكراته عن العمل السري فى ثورة 1919.
اقرأ أيضًا:
كريستال العذراء.. حكاية التضحية ببنت الـ 17 عامًا في أرض الخوف
