تقاريرسلايد

بفيلم “جولدا”.. كيف يرى الأمريكيون المرأة الحديدية

بين جولدا وكيسنجر والسادات

كتب – أحمد المرسي

 

“ليس أشق على نفسي من الكتابة عن حرب يوم كيبور”، بهذه الكلمات بدأت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في الحديث عن ذكرياتها عن حرب أكتوبر، في الكتاب الذي سيسمى فيما بعد “اعترافات جولدا مائير”.

كانت مائير خارج إسرائيل قبل الحرب بأيام، وعادت في 4 أكتوبر 1973، وفور عودتها عقدت اجتماعًا من “المطبخ السياسي” لتحليل الموقف على الجبهة المصرية، وقد سميت اجتماعاتها باسم “المطبخ السياسي” لأنها كانت تعقده في مطبخ منزلها.

المعلومات التي وصلت لجولدا كانت أن المصريون يقومون بحركات عسكرية مقلقة في الجنوب، ولكنه لا يوجد أي خوف من ذلك لأن هذا لا يعد إلا مناورات عسكرية طبيعية.

في5 أكتوبر جاءت أخبار مؤكدة أن مصر ستهاجم ظهر اليوم التالي، وعلقت مائير: “كان من واجبي أن استمع إلي “إنذار” قلبي، وأستدعي الاحتياطي، وآمر بالتعبئة.. لم يكن منطقيًا أن آمر بالتعبئة مع وجود تقارير مخابراتنا العسكرية، وتقارير قادتنا العسكرية، التي لا تبررها.. لكني- في نفس الوقت- أعلم تمامًا أنه كان واجبًا علي أن أفعل ذلك. وسوف أحيا بهذا الحلم المزعج بقية حياتي. ولن أعود مرة أخرى نفس الإنسان الذي كنته قبل حرب يوم كيبور”.

يوم المعركة

على رنين جرس التليفون استيقظت جولدا مائير في فجر يوم 6 اكتوبر، وعلى الخط الثاني جاءها الخبر أن المصريين سيهجمون في ظهر اليوم نفسه، وعلى الفور عقدت جولدا اجتماعًا في مطبخها، انضم له السفير الأمريكي في إسرائيل. ولكن الطائرات المصرية لم تمهل جولدا ومن معها الفرصة لعمل التعبئة العامة، وكانت تدك الحصون الإسرائيلية في سيناء.

تقول جولدا في مذكراتها: “ان التفوق علينا ساحقًا من الناحية العددية سواء من الأسلحة أو الدبابات أو الطائرات أو الرجال.. كنا نقاسي من انهيار نفسي عميق.. لم تكن الصدمة في الطريقة التي بدأت بها الحرب فقط، ولكنها كانت في حقيقة أن معظم تقديراتنا الأساسية ثبت خطؤها. فقد كان الاحتمال في أكتوبر ضئيلًا”.

فيلم جولدا

عن هذه اللحظات الحرجة التي مرت على جولدا مائير يصدر في 25 أغسطس من هذا الشهر فيلم “جولدا Golda” من بطولة الممثلة الأمريكية هيلين ميرين، الحائزة على جائزة الأوسكار 2020، والتي اشتهرت عبر دورها في مسلسل “ذا كوين” الشهير، والذي تقوم فيه بدور الملكة إليزابيث الثانية.

تقول هيلين الحاصلة على جائزة الدب الذهبي:“جولدا كانت مدخنة شرهة، حيث كانت تشرب السجائر طوال الوقت، وكانت شخصية ممتعة ومتميزة، كان لديها عقل لا مثيل له، ومع حبها وتفانيها للعمل كانت تقوم بكل ما عليها وأكثر، وكانت تحب شراء الأدوات المنزلية، وأنا مثلها، كانت شخصية متميزة لتقديمها، والفيلم ليس حياتها فى مجملها، ولكنه جانب واحد فى حياتها”.

وتضيف: “كان على وضع مكياج طوال التصوير، الذى ساعد مع الملابس فى رسم ملامح الشخصية، وكانوا يساعدونني بشكل كبير فى دخولى إلى الشخصية”.

تعرض الفيلم لموجة كبيرة من السخرية على مواقع التواصل فور إصدار إعلانه الدعائي في الشهر الماضي. وتهكم الكثيرون كون  الفيلم سيتم انتاجه من وجهة النظر الإسرائيلية، ولكن يبدو أن الفيلم أهم من ذلك.

أهمية فيلم جولدا

لا يعتبر فيلم جولدا فيلمًا سخيفًا ولا يجب التعامل معه بالاستهزاء، بل بقدر كبير من الحذر والتحليل والفهم، فحتى الآن لم يتم معرفة إذا كان سيتم عرضه في مصر أم لا، ولكن الفيلم يعرض وجهة نظر أخرى، يجب الاضطلاع عليها، على سبيل فهم كيف يفكر العدو. فالفيلم ليس وجهة نظر إسرائيلية عن الحرب بقدر ما هو وجهة نظر أمريكية عن الحرب.

PRIME MINISTER GOLDA MEIR.
פורטרט, ראש הממשלה הגב’ גולדה מאיר.

إعلان فيلم “جولدا” على يوتيوب

تعقيدات جولدا النفسية

تعتبر شخصية جولدا مائير شخصية معقدة نفسيًا، فقد ولدت في أوكرانيا وعاشت اضطهادًا طويلًا لليهود هناك، وعندما سافرت لإسرائيل كانت مساعدة لبن جوريون وواحدة من أشد المتحمسين له.

حملت جولدا في نفسها عقدة نفسية من الاضطهاد، وهو ما يظهر في أكثر من خبر، ففي وثائق قديمة نشرتها إسرائيل عن كواليس الحرب كانت جولدا في حالة صدمة نفسية كبيرة، وكانت ترى أن المجتمع الدولي لن يساعدها وإن اليهود سيكونون كبش فداء.

وسجلت الوثائق حديثها قائلة: “المساعدة القليلة التي نحصل عليها من المجتمع الدولي ستختفي، وسوف يلقون بنا إلى الكلاب.. إنهم لا يحبون اليهود، ناهيك عن اليهود الضعفاء”.

وعلى الفور طلبت من مساعديها الاتصال بوزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر لطلب إعادة التسليح: “أخبره SOS (نداء استغاثة”.

بررت جولدا مائير لنفسها الجرائم الإسرائيلية بحق العرب، فهي على الرغم من تحمسها الديني اليهودي، ورغبتها الشديدة في إنشاء وطن لليهود كانت ترد على من يتحدث عن معاركها مع العرب بوجهة نظر غريبة ترى أن العرب هم من يجبرون الإسرائيلين على قتالهم، ويبرز هذا في تصريحها:

“يمكننا أن نسامح العرب على قتلهم لأطفالنا، ولكن لا يمكننا أن نصفح عنهم لإجبارهم ايانا على قتل أطفالهم” وتضيف: “سنتوصل إلى سلام مع العرب فقط عندما يحبون أطفالهم أكثر مما يكرهوننا”. 

وتلك العبارة في ذاتها تعطينا فكرة عن كيفية تفكير جولدا من الأساس، واليهود بشكل عام، ومدى العقدة النفسية المتمركزة لدى تلك الجماعة الدينية، من أن ما يرتكبونه من أفعال إجرامية هم مجبرون عليه. يعطي الفيلم نظرة عن شعور الأزمة الذي يعاني منه اليهود، وهو ما يظهر إلى الآن، في إقامة دولة محاطة بالأسوار، تخاف أن يتم مسحها من على الخريطة.

تكمن الأهمية الثانية لفيلم جولدا  هو أنه يعرض وجهة نظر هنري كيسنجر الثعلب الأمريكي الذي انهى الحرب في اكتوبر، وكان ضالع بقوة في إحلال عملية السلام وكامب ديفيد بعد ذلك، حيث أنه كان الشخص المكلف بإجراء التفاوضات مع الجانبين المصري والإسرائيلي. وكسينجر يعبر بدوره عن النظرة الأمريكية لهذا الصراع.

الحرب من وجهة نظر أمريكية

يرى المصريون دائمًا حرب أكتوبر، والصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام بطريقة محدودة، ولكن حقيقة الأمر فإن الصراع العربي الإسرائيلي حتى عام 1990 كان جزء لا يتجزأ من الحرب الباردة التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.

كان الشرق الأوسط منطقة نفوذ دائم بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وكما حدث في كوبا بعد واقعة خليج الخنازير خلال الستينات والتهديد النووي من روسيا لأمريكا. كانت أمريكا تريد تجنب أي حرب قد تنشأ بينها وبين روسيا، خاصة مع تورطها في صراع عسكري في الهند الصينية.

ولهذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تريد فقط إنهاء المعارك.

سافرت جولدا مائير فور إعلان الحرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل طلب المساعدة من كيسنجر الذي كان مترددًا في ذلك، خاصة بعد أن فشلت المخابرات الإسرائيلية في تحديد موعد الحرب. وكان هنري لا يريد التدخل إلى بعد أن تكسب جولدا أرضًا حقيقية تتفاوض من أجلها، وهو ذاته الموقف الذي حاول تحريكه السادات ليكسب أرضًا من أجل التفاوض.

في علم السياسة تسمى مدرسة “هنري كسينجر” بالسياسة الواقعية، أو سياسة الأمر الواقع

يعرض الفيلم المفاوضات التي قامت بها جولدا مائير مع كسينجر من أجل دفع الولايات المتحدة الأميركية للمعركة. في ظل المخاوف من روسيا.

يقول التاريخ أن ما حسم التدخل الأمريكي في الصراع كان السادات نفسه. فيذكر كسينجر في مذكراته أنه ذهب إلى جولدا في 16 ديسمبر 1973 برسالة من السادات تقول:“هذه هي الرسالة الأولى منذ 26 عامًا يرسلها رئيس مصري لرئيس وزراء إسرائيلي.. عندما اقترحت المبادرة في عام 1971 كنت أرفض ذلك وعندما هددت بالحرب كنت أعنيها، وعندما اتحدث معكم عن سلام دائم بيننا الآن أعني ذلك، لم تكن بيننا علاقة من قبل أبدًا، ولكن الآن لدينا “هنري كيسنجر” الذي نثق به. دعونا نتحدث عن بعضنا ونساعده ونستغل وساطته حتى لا تنقطع العلاقة أبدًا.”

قرأت جولدا مائير الرسالة أكثر من مرة لعلها تستوعبها بشهادة كسينجر في مذكراته، ثم إلتفت إليه وقالت:”هذا جيد، ولكن ما استغربه هو لماذا يفعل ذلك؟”.

كان كيسنجر يعلم أن السادات بعد الثغرة أمامه حلين، الأول هو أن يلجأ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والثاني هو أن يلجأ إلى الإنجليز والفرنسيين والروس، وكان بالطبع يفضل أن يلجأ إليه، حتى لا تعود مصر لأحضان الاتحاد السوفيتي من جديد. وكان يعلم أنه في حال اعتمد السادات الخيار الثاني فإنه لن يكون محتاجًا للحرب من الأساس. بل فقط سيستخدم سلاح البترول الذي عززه به الخليج، عندما منعوا تصديره لأوروبا الغربية.

قال كيسنجر لجولدا:” فكروا جديًا فى انسحاب يعطيه المضايق، وأنا أشعر أن مشكلة إسرائيل دائمًا هى أنها لا تعرف متى تعطى، ولكنكم الآن أمام ضرورة الاختيار، هذا فى صالحكم دون أن نخدع أنفسنا، فالموقف الدولى ليس ملائمًا لكم”.

وفسر موقف السادات لها قائلًا:”فك الاشتباك سيعطيكم ميزة ويعطينا ميزة، الميزة بالنسبة لكم هو الوقت وترتيبات السلام التي تريدونها والميزة لنا بدء علاقات استراتيجية مع مصر ورفع حظر البترول عن الولايات المتحدة وأصدقائنا وحلفائنا فى أوروبا الغربية”.

ويلعب هنا كيسنجر دوره السياسي حيث يقول:
“نصيحتنا إليكم كانت ولا تزال أن تعملوا على إنجاح اتفاق لفك الاشتباك بينكم وبينه، فهذا وحده كفيل بتخفيف الضغط عليكم من أوروبا الغربية واليابان، ولا ينبغى لأحد منكم هنا فى إسرائيل أن يراوده الشك فى أن فشل محادثات فك الارشتباك سيؤدى إلى فتح خزانات هائلة للضغوط عليكم، ليس من أجل انسحاب جزئى، وإنما من أجل انسحاب كامل إلى خطوط 4 يونيو 1967”.
وبمسرحية قال كيسنجر:”
“إن رئيسة الوزراء تسأل: لماذا يفعل الرئيس السادات ما يفعله الآن؟ السبب فى رأيى أنه وقع ضحية للضعف الإنسانى، إنه فى الحالة النفسية لسياسى يتشوق إلى أن يرى نفسه وبسرعة سائرًا فى موكب نصر فى سيارة مكشوفة عبر مدينة السويس، وآلاف الناس على الجانبين يصفقون له كمنتصر”.
يعتبر فيلم جولدا فرصة جيدة للتعرف عن قرب وبشكل أفضل على السياسة الأمريكية. بدون عواطف زائدة، وبتعقل وهدوء.

اقرأ أيضًا:

ماذا سرق الفرنسيون من الأزهر عندما اقتحموه بخيولهم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!