تقاريرسلايد

حكاية شفيقة القبطية.. الراقصة التي شربت خيولها شمبانيا وسرقها عشاقها

كتب – أحمد المرسي

 

في القرن التاسع عشر انتشر في مصر فئة تسمى “الغوازي” وهم فئة من “العوالم” أو الراقصات اللواتي ينحدرن من جنس الغجر خاصة. ونلن شهر كبيرة وسط الأوساط الباحثة عن السعادة والترفيه، ولكن الأهم وسط الفئة الحاكمة في مصر.

قرب الحكام والبشوات في مصر هؤلاء الراقصات منهم، حتى أصبح لهن “صيت” كبير، ورقص بعضهن للخديو إسماعيل “هارون الرشيد” في العصر الحديث، الرجل الذي كان يعشق الجمال، والمرح.

أحب الخديو إسماعيل “ألمظ”، و”عبده الحامولي”، وعدد من المطربين والراقصات، ومن بينهم كانت “شوق”، والتي كانت أول راقصة يسمح لها بالرقص في الحفلات التي يقيمها الخديو.

في افتتاح قناة السويس سنة 1869 كانت شوق حاضرة، ورقص للمدعوين في الحفل الشهير الذي تحدث عنه العالم في ذلك الوقت، بحضور إمبراطورة فرنسا أوجيني.

شوق وشفيقة

في عام 1870 لم تكن شفيقة سوى فتاة صغيرة، تنحدر من أسرة قبطية ملتزمة دينيًا، تقوم بأداء الصلوات في الكنيسة، ويستمعن للعظات بكل إيمان.

في أحد حفلات الزفاف كانت “شوق” الراقصة الأشهر مدعوة، وقامت بالرقص بين النساء، وقامت الفتيات من العائلة بالرقص حولها، ولكن لم يلفت نظر شوق الخبيرة سوى فتاة واحدة فقط، هي “شفيقة”.

بعد الرقص توجهت شوق إلى شفيقة وقبلتها وسألتها” اسمك إيش يا عروسة؟”. فقالت لها “شفيقة”، فاستطردت شوق:”أنت خسارة.. ما تيجي أعلمك الرقص؟”.

عندما سمعت والدة شفيقة ذلك استشاطت غضبًا وأخبرت المرأة أنها لا تريد ذلك، ولكن شوق الخبيرة غمزت للفتاة بعينيها أثناء مغادرتها، في إشارة ذات معنى، واعتبرت شفيقة ذلك شرفًا، حيث أن أشهر عالمة في بر مصر بالكامل تريدها بالاسم؟! لقد كان ذلك بالنسبة لها شرفًا.

ولم تمضي أيام قليلة حتى اختفت شفيقة من منزل والدها!

راقصة في الموالد

جن جنون عائلة شفيقة، عندما علموا أن ابنتهم ترقص في الموالد وراء العالمة شوق منذ 6 شهور، وعرفوا بالسؤال أنها حاليًا في الوجه البحري وترقص في أحد الموالد الكبيرة.

أرسلت العائلة قسيسًا من أجل وعظ الفتاة، ولكنه لم يجد منها غير الصد والرفض بالعودة، وقد عرفت معنى الشهرة، فقررت عائلتها التبرأ منها. كان ذلك أمرًا مؤلمًا بالنسبة لشفيقة، بعد أن عرفت أن أهلها تبرأوا منها، فأطلقت على نفسها اسم “شفيقة القبطية” في محاولة منها لإثبات أنها لا تزال تحبهم ولا تزال تحب دينها، ولكنها على الرغم من ذلك تريد أن تفعل ما تحب.

الصورة الفوتوغرافية الوحيدة لشفيقة القبطية
الصورة الفوتوغرافية الوحيدة لشفيقة القبطية

ماتت شوق

بعد فترة ماتت شوق وأصبح الطريق ممهدًا أمام شفيقة التي حلت محلها في أفراح الذوات وذوي الرتب، وفاقت شهرتها عنان السماء، بعد أن اخترعت رقصة الشمعدان، وهي تلك الرقصة الشهيرة والتي تستطيع أن تراها بسهولة في أي من الأفلام الأبيض والأسود، فهي من تراث شفيقة القبطية.

انتشرت شهرتها كالنار في الهشيم، وطلب منها ملهى “الألدرادو” أشهر الملاهي الليلية في القرن التاسع عشر العمل معها، فوافقت، وأصبحت شفيقة تستخدم ثلاثة خدم من أجل جمع “النقطة” التي تنهال عليها كل ليلة.

عشاق شفيقة

وقع العشرات من الرجال في عشق شفيقة القبطية، التي كانت تنضج وتصبح أكثر فتنة وجمالًا، وكان أحد عشاقها رجل ثري يبلغ دخله اليومي 300 جنيه، وهو مبلغ مذهل، لا يمكن أن يكون إلا لأحد من الأمراء، وقد فعل هذا الرجل ما لا يمكن حصره أو روايته من أجلها فلم ينل منها أكثر من لمس يدها، حتى وصل به الأمر أن يفتح للخيول التي تجر عربتها زجاجات الشمبانيا من أجل ان تشرب منها!

توافد السياح على الإلدرادو من أجل شفيقة القبطية، وكتبوا عنها، وطارت شهرتها إلى الخارج بسبب رقصة الشمعدان ورقصة الأكواب، التي كانت تضعها على منضدة فوق بطنها فترقص بها بدون أن يسقط كوب واحد.

انتقلت شفية من الإلدرادو إلى ملهى “ألف ليلة” ورقصت بملابس مقصبة ومصنوعة من خيوط الذهب، ولبست في قدمها كعب عالي مصنوع من الذهب، مزين بقطع الألماس.

أحد الشركات الفرنسية وضعت صورة شفيقة على زجاجات عطورها، وعلب البوردة، وعلى مناديل الشعر، وتحولت شفيقة القبطية إلى أول وجه إعلاني في مصر.

شفيقة في فرنسا

عشق سائح فرنسي شفيقة، واقترح عليها السفر معه إلى باريس عاصمة الدنيا في ذلك الوقت، فوافقت، ولكنها رفضت عرضه الثاني بأن يتزوجها.

سافرت شفيقة وسافرت معها شهرتها في عاصمة النور، ورقصت في المعرض الدولي الكبير الذي تم إقامته هناك وحظيت باهتمام الجميع.

عندما عادت شفيقة لمصر عادت بالموضو الفرنسية والملابس الفاخرة، وتحولت إلى ملكة الرقص.

عربة شفيقة والخديو

بعد أن عادت شفيقة من باريس قامت بشراء عربات فاخرة لنفسها تجرها الخيول، وكان في النهار تركب عربة تينو تجرها ثلاثة خيول، وفي المساء تركب عربة فيتون تجرها أربعة، وسخرت لذلك أربعة اثنان من القمشجية “السياس”، يركضون أمام العربات بالعصي من أجل إفساح الطريق لها. وكان هذا المظهر من مظاهر الثراء الفاحش، أن يسيّر شخصًا أمامه السياس من أجل إفساح الطريق.

وصادف ذلك مرة أن كان الأمير “حسين كامل” – الملك حسين كامل فيما بعد – يتنزه في الجزيرة عندما رأى عربة شفيقة، فظنها عربة الخديو عباس، ولكنه عندما سأل أخبروه إنها عربة شفيقة العالمة، فحكى ما حدث للخديو الذي غضب وأصدر “ديكريتو” – أمرًا – بمنع أن يسير القمشجية أمام العربات بعد ذلك إلا عربته!

في أحد المرات كانت شفيقة تمر بعربتها فوجدت مشاجرة بين رجلين، حيث أن أحدهما لم يدفع إيجار دكانه للآخر وكان متأخرًأ، فما كان منها إلى أن دفعت هذا الإيجار المتأخر عن الرجل، وسمعت أن تاجر قماش أعلن إفلاسه ومد يده فأسرعت بمد العون له من مالها. وأنقذته بعد أن كان على شف الافلاس.

وكانت في أحيان كثيرة تسخر نفسها للرقص في حفلات زفاف عائلات فقيرة، ولا تتقاضى عن ذلك أجرًا، ولكنها كانت تفعل ذلك بهدف إسعاد العروسين، الذان كانت تساعدعما كذلك بمبلغ مالي يساعدهما في بداية زواجهما!.

بداية الألم

لم يستمر تألق شفيقة وتوهجها إلى الأبد، فصحيح أنها كانت تستخدم خدم إيطاليين، وتلبسهم ملابسًا فاخرة من عند أشهر خياطين عصرها، وكان لها كابينة خاصة في القطارات إذا أرادت أن تسافر، ولكن كل هذا لم يحقق لها السعادة.

عرف عن شفيقة القيام بأعمال الخير، ومساعدة الفقراء، فهي رغم ما وصلت له من الثراء الفاحش والشهرة الشديدة إلا أنها ظلت تشعر بالفقراء، حيث كانت تتخصص إيراد حفلات كاملة لمساعدتهم.

لم تتزوج شفيقة، ولم تنجب، حتى عندما حاولت ذلك، عرفت أنها عقيم، فتبنت شاب سمته “زكي”، فبالغت في تدليله، حتى فسدت أخلاقه، فأرادت تزويجه، فزوجته وهو لازال صغيرًا، وأقامت له الأفراح ستة أيام كاملة، ولكن إدمان الشاب للمخدرات أدى به إلى الموت في النهاية.

كانت تلك صدمة كبيرة بالنسبة إلى شفيقة.

أفول النجم

كبرت شفيقة التي كانت من مواليد عام 1851، وقل معجبينها، بل وظهرت راقصات أصغر سنًا وأكثر جمالًا، ومات أغلب معجبين شفيقة القدام، أو زهدوا النساء بالكامل، فبدأت تتسول الحب، فأوهمها شاب أصغر منها بحبه لها، وبدأت تنفق عليه من أجل أن تشعر بذلك الحب وهذا الاهتمام، وهذا البذخ في الإنفاق عليه جعل ثروتها تتناقص يومًا بعد يوم، حتى تركها في يوم من الأيام، وأخذ ما استطاع سرقته من مال.

وجدت شفيقة نفسها وحيدة، لا تستطيع ان تجني دخلًا بعد أن كبرت، ولم يبقى لها سوى منزلها بشبرا، فأجرت بعض غرفه، ثم باعته، واشترت محل لبيع الخمور، وتعرفت على شاب جديد، ألقى لها بعض الحب، فباعت المحل، وأعطته أمواله لذلك الشاب الذي سرعان ما هجرها!

اضطرت شفيقة للرقص وهي امراة كبيرة مقابل مبلغ زهيد، ولكنها لم تستطع أن تقاوم طوفان تلميذاتها اللواتي تفوقن عليها بسبب جمالهن الشديد وصغر عمرهن، مثل “معتوقة” و”زهرة العربية” و”نفوسة غرام”، فأخذت تجلس على الطرقات من أجل التسول، وتتطلب العون. حتى أنها أصبحت حديث مصر بالكامل، وكتب عنها الكثير من الصحفيين.

في عام 1926 ماتت شفيقة القبطية معدمة فقيرة عن عمر يناهز 75 عامًا.

 

اقرأ ايضًا:

إعدام سليمان داوود.. جاني أم مجني عليه؟

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!