تقاريرسلايد

قصة حواريّ المسيح الذي سرقت رفاته وأعادها عبد الناصر بعد ألف سنة

من أدخل المسيحية لمصر

كتب – أحمد المرسي

 

نحن الآن في العام 828م، في ميناء الاسكندرية..

« لا يوجد ما يشهد على فعلتنا غير القمر، اصمت وإلا فضحتنا، أحمل برفق ، وبهدوء وتحرك ، حسناً، سنعبر الرصيف، ومن ثم نُنزل شحنتنا إلى السفينة، توقف لحظة ..انظر إليّ .. نعم ،نحن أبطال يا رجل..  لقد سرقنا جثة القديس مارمرقس الإنجيلي!

بالتأكيد هذا ما دار في عقل أحد البحارة البندقيين «بونو دي مالاموكو» و«روستيكو دي تورتشيلو» ، في تلك الليلة البعيدة منذ أكثر من ألف ومائة عام، والحقيقة أنه إذا كنا في موضعهما ما تمالكنا أنفسنا من الحماس ونحن نسرق جثة أحد حواريّ السيد المسيح ونهربها من الإسكندرية إلى البندقية!

Accademia – St Mark’s Body Brought to Venice by Jacopo Tintoretto

ولاشك أنهما ظنا أنهم يغيران التاريخ  في هذه اللحظة التاريخية، بعد أن قاما برشوة الحارسين اليونانيين السكندريين على تابوت القديس، وهما القس تادرس والراهب استرجيوس ، ليضعا أيديهما على الجثة ويخرجانها من كنيسة «بوكاليا»، متسترين بالظلام!

وبقية القصة المعروفة، أنه في صباح اليوم التالي ولكي يخرجا بسفينتهما من الميناء تحت أعين سلطات الجمارك الإسلامية- حيث كانت مصر تحت حكم العباسيين في هذه الأوقات- اضطر البحاران أن يضعا جسد القديس مرقس الطاهر في برميل ويغطيانه بطبقات من لحم وشحم الخنزير وأوراق الملفوف!

وكانت هذه الخدعة خدعة ذكية، نظراً لأنه لا يسمح للمسلمين بتناول لحم الخنزير ولمنع الحراس عن فحص الحمولة عن كثب، وهذا ما حدث بالفعل، وسارت السفينة بهما بعد ذلك تقطع البحر المتوسط إلى الشاطيء الآخر!

قصة القديس؟

سُمى مامرقس الرسول بإسمين فقد ولد باسم يوحنا وهو اسم عبري ويعني “يهوه حنان” أو “حنان الله”، ومن ثم سمي باسم روماني مناقض له تماماً وهو “مرقس” و “ماركوس” وتعني باللاتينية “مطرقة”.

وقد ولد مرقس في ليبيا بالرغم من أنه يهودي من سبط لاوي، لأب هو أرسطوبولس و أم هي مريم، وكان هذا قبل إنتقاله إلى أورشاليم بفلسطين بعد أن قامت قبائل البرابرة بمهاجمة أملاكهم في القيروان،واستفاد كثيراً من معرفته باللغة اليونانية واللاتينية والعبرية، وهناك تعرف على السيد المسيح، وحيث كان له شأن كبير في المسيحية ، وكان «العشاء الأخير» في بيته!

بدأ مرقس التبشير بعد المسيح في مناطق عديده ومنها أوروبا وروما وقبرص قبل أن يعود إلى المدن الخمس في ليبيا وطنه الأول للدعوة، ومن ثم يسافر إلى مصر.

ويعتبر مرقس هو أول من أدخل المسيحية إلى مصر،ولهذا قصة معروفة ، حيث أنه دخل الإسكندرية في عام 60م من بابها الغربي،قادماً من المدن الخمس، وهناك تهرأ حذاءه من كثرة السير وإنقطع شسعه، فأخذه إلى الإسكافي «أنيانوس» ليصلحه له، وعندما كان يغرز فيه المخرز نفذ من الجهة الأخرى إلى إصبعه وجرحه، عندها صرخ أنيانوس من الألم باليونانية «إيسثيؤس» أي «يا الله الواحد». وللحال أمسك القديس مرقس ترابًا من الأرض وتفل عليه ثم وضعه على الجرح وشفاه باسم السيد المسيح، وهنا آمن أنيانوس المسيحية وكان أول مسيحي في مصر!

ومضى مرقس يبشر بالمسيحية في مصر، قبل أن يهُرب إلى ليبيا ثانية، ومن ثم يعود للإسكندرية مرة أخرى في 65م، ليجد أن الإيمان قد إنتشر في المدينة، وبينما كان يحفتل برفع القرابين المقدسة يوم عيد الفصح ، كان في المدينة عيد الإله الوثني «سيرابيس» ولغضبهم من المسيحيين ، ورفضهم الإشتراك في الأعياد القومية للمدينة وتمجيدهم للإمبراطور هجم الوثنيين على الكنيسة التي تم إنشاءها على البحر وتسمى “بوكاليا” وتعني “دار البقر” – وسميت بذلك لأنها كانت فيما قبل حظيرة للبقر ولانها كانت تنبت في ذلك المكان حشائش واعشاب بريه فكانوا يرعون فيها البقر-  وهناك أخذ مرقس من وسط أتباعه ومن ثم سحلوه بعد أن ربطوه بحبل في طرقات المدينة وهم يصيحون “جروا التنين في دار البقر” ومازالو يفعلون حتى تناثر لحمة وتصفت دماؤه، وفي المساء وضعوه في سجن مظلم، ليعيدوا الكره في اليوم الثاني حتى فاضت روحه في آخر شهر برموده من سنه 68م!

ويطلق على إسم مرقس اسم البشير وهو كاتب السفر الثاني من العهد الجديد والمسمى «إنجيل مرقس»، ولذلك يلقب أيضاً بالإنجيلي، وأيضاً «الصوت الصارخ في البرية»، ويرمز إليه برمز «الأسد»، ويُعتبر بحسب التقليد الكنسي السكندري البطريرك الأول، ولذك تسمى الكنيسة المصرية بـ «الكنيسة المرقسية»، لأن القديس مرقس هو من قام بإنشاءها!

إنفصال الرأس عن الجسد!

طوال سنوات دُفن جسد القديس مرقس في كنيسة «بوكاليا» ولسنوات ظلت تحت الحفظ، حتى تعددت المذاهب، فكانت كل الكنائس في يد السلطة الرومانية وكان تحت حراسة الروم الملكيين، بعد استبعاد الأقباط اليعاقبة من الكنائس واضطهادهم.

ولكن يروي لنا التاريخ أن رأس القديس مرقس سرقت، أو على الأصح حاول أحد البحارة الإفرنج سرقتها في عام 644 م، وهي أولى سنوات الفتح العربي، حيث كان عمرو بن العاص يتولى إدارة الأمور في البلاد، وورد ما حدث في سنكسار 8 طوبة حيث دخل رئيس أحد المراكب الراسية ليلا إلى الكنيسة التي على ساحل البحر المالح،  ووضع يده على التابوت، متوهماً أن فيه ذهباً أو غيره من الكنوز، فوجد جسم القديس فعلم أنه عظيم، فأخذ الرأس وخبأها في خُن المركب .

وفي الصباح وعندما كانت تحاول السفينة الخروج من الميناء بمشقة اكتشفهم العرب، وأخرجوها، ومن ثم قبضوا على البحار فأعترف فضرب وتمت إهانته، ثم سأل عمرو بن العاص عن بابا الأقباط وكان في حالة هروبه إلى الصعيد فكتب خطاباً بخط يده يطمئنه، فحضر واستلم الرأس بعدما قص عليه ما حصل، وأعطاه 10 آلاف دينار برسم بناء كنيسة عظيمة على صاحب الرأس، فبنى هذه الكنيسة في الإسكندرية المعروفة بالمعلقة الكائنة في شارع المسلة بالثغر إلى هذا اليوم، ومن هنا إنفصل الرأس عن الجسد.

القسمة العادلة!

حسناً، ولكي نفهم ما حدث، أنه بعد الإنفصال بين الجسد والرأس الذي استمر ليومنا هذا، ظل الجسد تحت حماية الروم الملكين، فعلى الرغم من أن عمرو بن العاص قد سلم الكنائس في جميع مصر إلى البابا بنيامين الذي كان مضطهد قبل الفتح العربي من السلطات الرومانية إلا أنه لم يستطيع أن يسلم كنيسة “بوكاليا” التي تضم جسد القديس.

فقد تشبث الروم في عنف بالجسد والكنيسة فلم يقو عليهم الأقباط، أو أنهما اتفقا مع عمرو بن العاص على ذلك، ويقول أن أبو المكارم في تاريخه انه قد قسمت «بيع» الإسكندرية، فخص اليعقوبية (الأقباط اصحاب الطبيعة الواحدة) كنيسة القمحة ورأس مرقس، وخص الملكية (الروم أصحاب الطبيعتين) جسده ودير أسفل الأرض. وظل هذا حتى السرقة!.

القديس في الغربة!

إذاً، فلنعود إلى البطلين الأحمقين «بونو دي مالاموكو» و«روستيكو دي تورتشيلو» ، فبعد أن مر الأمر بسلام وطارا بسرعة الريح إلى البندقية سلما الرفات إلى دوق المدينة «جيوستيانيانو تشارتازيو» – وإذا كان إسمه صعباً إلى هذه الدرجة فلا تحفظه-  وخبأ هذا الرجل الرفات في بيته!

ويقول الباحثون أن سرقة جسد القديس مرقس لم تكن سرقة دينيه ولكنها كانت سرقة سياسية أكثر منها مدفوعة بالتقوى، حيث كان «جيوستيانيانو» يسعى إلى توطيد مكانته ومكانة الكنيسة الفينيسية «البندقية» في أوروبا، والتي أصبح منذ مجيئة القديس مرقس مبشرها وحاميها بالكامل، وذلك بعد أن كان البنادقة يحجون إلى قبر مرقس في مصر!.

على أي حال إحتفظ الدوق بالرفات في قصره المتواضع – والحقيقة أنه ليس كذلك – ولكن في وصيته وقبل موته طلب من أرملته بناء كنيسة مخصصة للقديس مرقس وهي الكنيسة التي أقيمت بين القصر وكنيسة القديس «ثيودور ستراتيلاتيس» الذي كان قبل قدوم مرقس شفيعاً للمدينة.

كنيسة سانت مارك!

وسُميت الكنيسة بكنيسة «سانت مارك» وهي الترجمة الإيطالية لـ «القديس مرقس»، وتم تأسيسها في القرن التاسع، لإيواء جثته، بعد أن قام اللصان بتهريبها، ولكن الكنيسة تعرضت للحرق في تمرد عام 976م عندما احتجزت الجماهير الغاضبة «بيترو الرابع كانديانو» – وهو دوق المدينة بالمناسبة – بداخلها لقتله، حيث تم ذبحه هو وولده وإلقاء جثثهم في المسالخ حتى تم انتشالها بعد ذلك ودفنها، وقاموا بإحراق الكنيسة بما فيها!

وبعد هذه «البهدلة» السياسية، إختفت رفات القديس في الكنيسة التي إحترقت ولم يتم إعادة اكتشافها إلا في عام 1094م على يد «فيتالي فالييرو» دوق ذلك الوقت، وتم بعدها إنشاء المبنى الأصلي في صورته العالمية المعروفة حالياً، حيث زينت بالذهب والرخام، ويصل الزائر إليها بدهليز به خمسة أبواب وبه أعمدة شرقية في غاية الجمال، ورسوم تعبر عن حوادث من العهد القديم، من أول الخليقة إلى عهد موسى، ومن فوقه نقش بالذهب يمثل تاريخ نقل جسد مارمرقس من الإسكندرية!

وتمثل كنيسة سانت مارك الآن والمعروفة باسم Chiesa d’Oro أو كنيسة الذهب – نظراً لذينتها الذهبية الفخمة – مثالاً بديعاً للفن البيزنطي، وهي تتكون من آكثر من 8 آلاف متر مربع من الفيسفساء. وهي تعتبر تابعة للأبرشية الرومانية الكاثوليكية في مدينة البندقية شمال إيطاليا، وهي من أشهر معالم المدينة الآن وتقع في ميدان سان مارك بجوار قصر “دوجي Doge’s Palace ” أو الدوق!.

عودة القديس

ظلت الرفات على وضعها حتى عام 1968 عندما طلب الباب كيرليس السادس بطريرك الأقباط من الباب بولس السادس بابا روما (1963م – 1978م )، إعادة جسد القديس مرقس الذي سرقه البحارين الإيطاليين ونقلوه إلى فينسيا، ولكن رفضت البندقية تسليم الرفات، لأن مار مرقس هو شفيع مدينتها، ولقد أتخذت الأسد المرقسي «أسد القديس مرقس المجنح» علامة وشعار لها منذ العصور السحيقة فضلا أن وجود الرفات يمثل أهمية سياحية لمدينتهم وكادت المفاوضات أن تتعثر.

وظل قداسة البابا كيرلس السادس يُلح على إعادة رفات مرقس رسول المسيح  بمساعدة سفارة الفاتيكان بالقاهرة،فأضطر البابا بولس السادس أن يتدخل ويطلب جزء من رفات القديس يٌهدى إليه شخصياً بصفته بابا كنيسة روما , وأن يحتفظ البنادقة بالجزء الباقى من الرفات كبركة لهم ولمدينتهم!

وبناء على هذا الإتفاق الداخلى فى الكنيسة الكاثوليكية وافق الكاردينال «أوريانى» بطريرك البندقية المدينة التى تحتفظ بالرفات فى أكبر كنائسها , وقدم جزء من العظام إلى قداسة البابا بولس كهدية شخصية وهو الذى أرسل بدوره إلى البابا كيرلس السادس يبلغه فيه أنه فى إنتظار وصول وفد الكنيسة القبطية لإستلام رفات القديس مار مرقس الرسول الذى يحتفظ به فى حجرته الخاصة!.

وإختار الباب كيرلس السادس وفداً رسمياً مكون من 10 من المدن الكبرى والأساقفة منهم 7 أقباط و3 أثيوبيين و3 من العلمانين الأقباط البارزين وهم الفرح أندراوس الأمين العام لهيئة الأوقاف القبطية , ووإدوارد ميخائيل الأمين العام للجنة المالية لإدارة أوقاف البطريركية ، وفريد عونى وكيل المجلس الملى العام .

وفى يوم 20 يونيو 1968 م سافر الوفد القبطى ومعهم رسالة إلى البابا بولس ومعها هدايا تذكارية مقدمة له , وقد رافق الوفد تسعون من ألاباء الكهنة والآراخنة فى رحلة تاريخية لم تحدث من قبل ولن تحدث من بعد .

ويوم السبت 22 يونيو 1968 فى الساعة 12 ظهراً أقيم إحتفال دينى كبير فى قاعة البابا بولس السادس بالفاتيكان تلك التى يبلغ طولها أكثر من 20مترا حيث إصطف الحاضرون ليشاهدوا حرس البابا وهو يدخلون وورائهم حامل الرفات ثم حراس آخرون ،وعلى منضده كبيره وضع الصندوق الذى يضم الرفات مفتوحا تحوطه الزهور والشموع.

وتم وضع قطعة العظام بكل وقار في وعاء من الفضة، وضع بدوره داخل صندوق فضي مشغول بفن رفيع وجوانبه من البلور وأغلق بإحكام بخيط رفيع مختوم بخاتم من الشمع الأحمر.

وإهتز المطار بالتهليل والتصفيق والصياح عندما رأى الجماهير والكتل البشرية البابا كيرلس نازلا وعلى كتفه صندوق الرفات!.

وفى صباح 25 يونية 1968م وفى أرض دير الأنبا رويس بالعباسية المعروف فى التاريخ باسم دير الخندق أقيم أحتفال رسمى تحت رئاسة البابا كيرلس السادس وحضره  الرئيس جمال عبد الناصر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!