بث عاجلسلايدلقطات

سليمان الحلبي.. هل كان قاتل كليبر بطلًا أم قاتلًا مأجور

نشر وثائق محاكمته الأصلية

كتب – أحمد المرسي

قد لا يكون هناك شخصًا مثيرًا للجدل خلال فترة الحملة الفرنسية على مصر أكثر من سليمان الحلبي، المعروف في التاريخ بأنه قاتل الجنرال كليبر، وقد اعتبر سليمان الحلبي طوال سنوات طويلة بطلًا في عيون المصريين والسوريين، حتى أنه منذ عشر سنوات كان هناك حملة كبيرة لجمع توقيعات في سوريا من أجل استعادة جمجمته التي يعرضها الفرنسيون في متحف الإنسان في باريس.

ولكن هل سليمان الحلبي بطل قومي حقيقي مثلما يذكر التاريخ أم أن الوثائق لها رأي آخر؟

من أين جاء؟

ولد سليمان الحلبي سنة 1777 في قرية كوكان، قرب عفرين، في سوريا العثمانية، عائلته كردية، ووالده هو محمد امين، وكان يعمل تاجرًا سوريًا يبيع الزيت والزبدة، أرسله والده سنة 1797 إلى مصر ليتعلم في الأزهر، وفي ذلك الوقت شنت الجمهورية الفرنسية غزوًا على مصر، فيما يعرف تاريخيًا بالحملة الفرنسية. بقيادة نابليون بونابرت.

مرت الحملة الفرنسية بأكثر من مرحلة، فبدأت بقيادة نابليون بونابرت للحملة، ثم تركه لها وعودته إلى فرنسا، وتولية الجنرال كليبر لأمرها. وقد كان جان باتيست كليبر كما أكد أغلب المؤرخين رافضًا لبقاء الحملة في مصر. ويريد عقد صلح مع العثمانين، الذين كانوا يريدون عودة سلطتهم على البلاد فور خروج الفرنسيين منها. ولكن تعرقلت محاولات المفاوضات، وحدث ما يسمى بثورة القاهرة الثانية، والتي أخمدها كليبر، وهزم فيها الجيش العثماني ودحره إلى فلسطين.

عاد سليمان الحلبي إلى فلسطين سنة 1800. وهو لا يفكر في شيء غير تجارة أبيه، الذي سجنه والي حلب التركي، وهناك قابل أحمد أغا، قائد فرقة إنكشارية عثمانية، وشكى له من إبراهيم باشا والي حلب الذي يضيق على تجارة أبيه، فأشار إليه أحمد أغا بعرض، وهو أن يتوسط لأبيه عند إبراهيم باشا الذي يحبه، مقابل أن يعود إلى مصر التي يعرفها، ويقتل ساري عسكر كليبر. وقد كان.

31 يومًا في مصر

عاد سليمان الحلبي إلى مصر، بعد أن حصل على 40 قرشًا مصاريف سفره، وجمل، فأخذ قافلة صابون، ونزل القاهرة وسكن بمنطقة الأزهر، وسكن هناك، في انتظار تنفيذ ما أراد، وهناك أخبر سره لأربعة من السوريين يدرسون في الأزهر؛ هم: محمد الغزي، والسيد أحمد الوالي، وعبد الله الغزي، وعبد القادر الغزي.

وظل سليمان الحلبي يتعقب كليبر، الذي كان يسكن في الجيزة مؤقتًا حتى يتم إصلاح سراي الألفي بالأزبكية حيث كان يسكن، وعلم بموعد نزول كليبر إلى بستانه للتمشي، فأخفى الخنجر في سرواله، وتسلل دون أن يشعر به الحرس، وهناك وجد كليبر بصحبه بروتان المهندس المعماري وعضو اللجنة العلمية، فاقترب منه يريد أن يستجديه، فقال له كليبر “مفيش”، وكررها، فلم يرجع، فألح سليمان واقترب منه وأخذ يد كليبر اليسرى، متظاهرًا أنه سيقبلها، ثم أخرج خنجره، وطعن به كليبر أربع طعنات متتالية، اخترقت صدره وبطنه، فسقط على الأرض، وحاول المهندس بروتان أن ينقذه، فطعنه سليمان بستة، وهرب!.

كليبر
كليبر

طارد الجنود الفرنسيون القاتل، ولم يعثروا عليه، ولكن مع البحث تمكنوا من ضبطه بعد أن قامت جارية سوداء – شاهدت ما وقع من نافذة منزل سيدها المطل على بستان كليبر – باخبار الجنود عن مكانه، حيث كان قد اختبأ وراء حائط متهدم في الحديقة الملاصقة لدار القيادة، فدلتهم على مكانه، وكان كل شيء يدل على أنه القاتل، حيث كانت ملوثة بالدماء، ومعه الخنجر الذي قتل به كليبر، والحائط مخضب بالدم، وكانت عمامته ممزقة بعد أن مزقها المهندس بروتان. فقبض عليه وتم تقديمه للمحاكمة.

السكين المستخدمة في قتل كليبر
السكين المستخدمة في قتل كليبر

المحاكمة الفرنسية

تولى الجنرال جاك مينو القيادة بعد كليبر، وقد رفض أن يتم قتل سليمان الحلبي دون أن يتم التحقيق معه، فعقد محاكمة كانت جديدة على المصريين في ذلك الوقت، وصفها الجبرتي في تاريخه الشهير، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، فيقول:

“وألفوا في شأن ذلك أوراقا ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها وطبعوا منها نسخًا كثيرة باللغات الثلاث الفرنساوية والتركية والعربية، لتضمينها خبر الواقعة وكيفية الحكومة (إصدار الحكم)، ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة (الفرنسيين) الذين يحكمّون العقل ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه (جعلوه يعترف)، ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه”.

ويلفت نظرنا هنا عددة أشياء، الأولى هي وصف رجل مثل الجبرتي لسليمان الحلبي بـ “الأفاق الأهوج”، وهذا يعني أنه عبد الرحمن الجبرتي، وهو واحد من أشهر الوطنين في تلك الفترة كان يرى في سليمان الحلبي شخص أفاق. والنقطة الثانية هي تسجيل تلك المحاكمة، وقد حدث ذلك في كتاب اسموه: “مجمع التحريرات المتعلقة إلى ما جرى بإعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر العام كلهبر”، وهو موجود بنسخته التي تحتوي الترجمات الثلاثة إلى الآن.

تفاصيل المحاكمة كما جاءت:

وجاء في أوراق المحاكمة بنسختها العربية ما يلي بدون تحريف:

“انسأل كام يوم له في مصر، فجاوب أن له واحد وثلاثين يوما، وأنه حضر من غزة في ستة أيام على هجين “جمل”.

انسأل لأي سبب حضر من غزة، فجاوب لأجل يقتل صاري عسكر العام (الجنرال كليبر).

انسأل من الذي أرسله لأجل يفعل هذا الأمر، فجاوب أنه أُرسل من طرف أغوات الإنكشارية وأن حين رجعوا عساكر العثملي من مصر إلى بر الشام أرسلوا إلى حلب بطلب شخص يكون قادر على قتل صاري عسكر العام الفرنساوي، وأوعدوا لكل من يقدر على هذه المادة يقدموه في الوجاقات (الفرق العسكرية العثمانية) ويعطوه دراهم ولأجل ذلك هو تقدم وعرض روحه لهذا”.

انسأل المذكور على قصة قتل صاري عسكر، فجاوب أنه حضر من غزة مع قافلة حاملة صابون ودخان وأنه راكب هجين، ثم أن أحمد أغا وياسين أغا أغوات الإنكشارية بحلب وكلوه في قتل صاري عسكر العام بسبب أنه يعرف مصر طيب بحيث أنه سكن فيها سابق ثلاثة سنوات وانهم كانوا وصوه أنه يروح يسكن في جامع الأزهر وأن لا يعطي سره لأحد كليا بل يوعى لروحه ويكسب الفرصة في قضي شغله لانها مادة تحب السر والنباهة ثم يعمل كل جهده حتى يقتل صاري عسكر.

ويضيف سليمان هنا أنه عندما ذهب إلى أحمد أغا ليشفع له عند الوالي  “قال له (أحمد أغا) إنه محب لإبراهيم باشا (والي حلب) وإنه ما يقصر ويوصيه في راحة أبوه ولكن بشرط أنه يروح يقتل أمير الجيوش الفرنساوية.

“انسأل هل يعرف الخنجر “ملغمط” دم الذي به قتل صاري عسكر، فجاوب إنه يعرفه وأن هذا هو بذاته الذي قتل به صاري عسكر.

انسأل من أين أحضر هذا الخنجر وهل أحد من الأغوات أعطاه له أم أحد خلافهم، فجاوب أن ما أحد أعطاه له وإنما بحيث أنه كان قاصد قتل صاري عسكر، توجه إلى سوق غزة واشترى أول سلاح شافه.

الحكم بالإعدام

تم الحكم بالإعدام هو الإعدام على سليمان الحلبي والأربعة السوريين الأزهرين الذين تستروا عليه، وكان تنفيذ الإعدام على الطريقة الإسلامية التي اعتمدها العثمانيون في مصر، وهي الخوزقة، فحكم على سليمان بحرق يده، ثم خزوقته، وترك جثته في الهواء حتى يأكلها الطير، وحكم على الأربعة بقطع رقابهم. وكان تنفيذ الحكم في منطقة تسمى “تل العقارب” بمصر القديمة، اعتادوا فيها تنفيذ الأحكام من هذا النوع.

“مماليك فرنسا”.. عندما شارك المصريون في صنع مجد نابليون بونابرت

على الخازوق

ورط سليمان الحلبي أربعة من زملائه، لم يكونوا ضالعين في قتل كليبر من الأصل، وكان يصيح أثناء تنفيذ الحكم عليه، ويستغيث، ويتفوه بكلمات غير مفهومة، طالبًا النجاة، وكان يسال الجلاد العفو عندما كان يقوم بتنفيذ الحكم. وبحسب المؤرخ إدوارد دولنيك عندما بدأوا تنفيذ حرق يديه، فإن الحلبي جلس صامتًا، والمسؤول يمسك بيده على الفحم الساخن، ولكنه احتج عندما تدحرجت قطعة من الفحم على كوعه مشيرًا إلى أن الحكم قال أن يده وحدها ما ستحرق.

بعد إحراق يده تم دق خازوق بطول 9 أقدام في جسده، من أسفل وحتى عظم القص، وتم رفع الخازوق على الأرض، وقد تحدث مرة واحدة فقط أثناء الخوزقة وصرخ قائلًا: “لا إله إلا الله ، وأن محمدًا نبيه”. ويقول المؤرخون أن الناس انصرفوا، وأن جندي فرنسي أعطاه شربة ماء، لكي يشرب وهو معلق، فسرع ذلك من موته.

رأس الحلبي

تم دفن كليبر في مصر، في جنازة عسكرية مهيبة وصفها عبد الرحمن الجبرتي، وقد نعاه جوزيف فوريه عضو الديوان، في خطبة عصماء، قائلًا:

“أما أنت يا كليبر، يا موضع تبجلينا وحزننا في هذا الاحتفال الذي لن تحضر بعده، فلترقد روحك في سلام أيها الشهم العزيز وسط آثار المجد والفن، لتسكن الأرض الشهيرة على مر العصور. ولينضم اسمك لقائمة تضم أسماء جيرمانيكوس وتيتوس وبومبيه والعديد من القادة والحكماء ممن تركوا مثلك على هذه الأرض ذكريات لن تمحى”.

أما عن سليمان الحلبي فقد أخذ الطبيب الفرنسي لاريه عضو المجمع العلمي جثمانه، وضمه غلى مجموعته الخاصة، وعرض جمجمته لسنوات على طلبة الطب، ثم أهداها في النهاية لمتحف الإنسان في قصر شايوه في باريس. وهي معروضة إلى اليوم هناك وأسفلها السكين التي قتل بها كليبر، ومكتوب أسفلها “جمجمة قاتل”.

في عام 1801 حمل الفرنسيون رفات كليبر معهم لفرنسا، وعندما عاد شعر نابليون بونابرت بالخوف من سمعته الكبيرة. فقرر أن يدفنه في قلعة شاتو ديف في جزيرة مقابل مارسيليا. ولم يدخل الأراضي الفرنسية إلا في عام 1818 بعد سقوط بونابرت، حيث تم نقله إلى مسقط رأسه في ستراسبورج. وأقيم له تمثال هناك.

اقرأ أيضًا:

“زبيدة”.. قصة المصرية التي تزوجت قائد الفرنسيين وتركها تموت جوعًا في شوارع مارسيليا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!