تقاريرسلايد

“أوكازيون المسلات”.. كيف انتقلت المسلات المصرية لعواصم العالم

كتب – أحمد المرسي

 

تتخطى عدد المسلات التي خرجت من مصر للعالم أكثر من 100 مسلة، للدرجة التي لم يتبقى فيها غير 7 مسلات في البلد.

والطريف أن أكبر عدد من المسلات المصرية في العالم موجود حاليا في إيطاليا وليس في مصر، إذ يوجد في إيطاليا وحدها ثلاث عشر مسلة، منها ثمان مسلات في مدينة روما فقط!

This picture shows a view of one of the Ramses II colossi and the remaining obelisk outside the Luxor Temple pylons in Egypt’s southern city of the same name, on July 27, 2022. (Photo by Khaled DESOUKI / AFP) (Photo by KHALED DESOUKI/AFP via Getty Images)

أول الحرامية؟

بدأ نهب المسلات المصرية قبل الميلاد، وكان أول من قام بهذا هو آشور بانيبال، آخر موك آشور والحائز على لقب ملك العالم، بعد 6غزوه مصر في 665 ق.م وقام بنقل مسلتين من مسلات “أون” أو عين شمس، إلى مدينة نينوي عاصمة مملكة الجديدة التي أسسها سنحاريب الآشوري بعد الإستيلاء على بلاد الرافدين وأقام آشور المسلتين في الميدان الكبير المواجه لقصر الذي توسط عاصمة المدينة!

مسلات إيطاليا:

بعد ذلك إنتقل ولع نقل المسلات إلى الأباطرة الرومان، الذين اهتموا بنقلها إلى روما، وكان أول من بدأ نقل هذه المسلات هو الإمبراطور أغسطس قيصر عند عودته من الزيارة التي قام بها لمصر في 10ق.م، وجعل تلك المسلة تتوسط مدينة روما، بعد أن قام بتجديدها، ونقش بعض العبارات باللغة اللاتينية على قاعدتها تبركاً بالمعبودة إيزيس والتي كان يطلق عليها الرومان سيدة العالم!

تلاه بعد ذلك الإمبراطور كاليجولا الذي نقل مسلات تحتمس الثالث من عين شمس، وأقامها في ميدان القديس بطرس.

ومن ثم دوماتيان الذي نقل مسلات رمسيس الثاني عام 88م، ووضعها في بهو معبد إيزيس الذي أقيم تقديساً لسيدة العالم المصرية على شاطيء نهير التيبر في روما، وفي عام 130 م نقل الإمبراطور هادريان مسلة من هليوبلس إلى روما.

وحاول الإمبراطور قسطنطين الأول المسمى بالعظيم في 330م  – وهو الإمبراطور الذي أقر المسيحية كديانة في الدولة الرومانية – أن ينقل أكبر مسلة فرعونية وجدها في معبد آمون في الكرنك والتي تعد أكبر المسلات التي تم نقلها إلى روما، ولقد حاول إرسالها إلى بيزنطة لتجميل عاصمة مملكته الجديدة، ولكن محاولته بائت بالفشل وظلت مكانها على شاطيء الإسكندرية لمدة 27 عاماً حتى قام إبنه قسطنطينوس الثاني عام 357م بنقلها إلى روما حيث أعطى الأوامر بإقامتها في ميدان مكسيموس.

ولكن يقول المورخون أن لعنة الفراعنة قد صاحبت المسلة من وقت نقلها من هليوبليس فلم يتمتع قسطنطين بالنظر إليها حيث أنه عندما أراد الإحتفال بإقامتها، تصدعت وسقطت مكانها، ومات الإمبراطور في نفس السنة، فتركت مكانها خوفاً  ولم يتجرأ أحد على محاولة ترميمها أو الإقتراب منها حتى عام 1587 أي بعد 1230 سنة كشف عنا ووجدت محطمة إلى ثلاث قطع فقام «رومينكو فونتانا» بأمر من البابا «سيكستوس الخامس»  في سنة  1590م بترميمها وإصلاحها وإقامتها أمام كنيسة القديس يوحنا «باللاتيران» كما رأمر برفع الصليب على قمتها كرمز لإنتصار المسيحية على الوثنية!

وتعتبر واحدة من أشهر المسلات هي مسلة “الفاتيكان” وهي مسلة كان كاليجولا أخذها لروما وبعد ذلك وفي القرن السادس عشر نقلت إلى الفاتيكان لميدان سانت بيتر، وكان على رأس هذه المسلة في الحقبة الرومانية كرة ذهبية تحوي رماد يوليوس قيصر كتقديس له، وقد تمت إزالتها بعد وضعها في الفاتيكان!.

مسلة تركيا:

ويبدو أن قسطنطين الأول كان سارق من الطراز الأول حيث أنه استولى كذلك على مسلة للملك تحتمس الثالث، من معبد الكرنك لطيبة ونقلها إلى الإسكندرية، تمهيدا لنقلها إلى القسطنطينية، ولكنه مات قبل أن يفعل وانتظرت المسلة حتى القرن الخامس الميلادي ليتم نقلها إلى القسطنطنية على يد الإمبراطور ثودوسيوس الأول، لتظل المسلة مهملة في ميدان سباق الخيل، حتى تولى بروكلوس إدارة المدينة ليحولها إلى نصب تذكاري، ويرفعها على أربع كتل بارزة مقامة على قاعدة بنقوش رومانية ليشاهد منها الإمبراطور والشخصيات البارزة مباريات السباق والعروض الموسيقية والراقصين وسباقات المركبات، وتقف اليوم حالياً  في ميدان السلطان أحمد بجوار متحف آيا صوفيا، بالقرب من المسجد الأزرق في القسطنطينية القديمة التي أصبح الآن اسمها «إسطنبول» بعد الفتح العثماني لها، مع نص هيروغليفي يقول:

«لرع .. رب النصر قائم على كل البلاد الذي جعل حدوده تصل إلى قرون الأرض ومياه النهرين، بقوة  وظفر على رأس جيشه الظافر موقعاً مذبحة عظيمة».

مسلة انجلترا:

تأخر حصول إنجلترا على نصيبها في أوكازيون المسلات قليلاً، وكان حصولها على مسلتها بعد فرنسا، ولكن الوعد بالحصول على مسلة كان موازياً لمسلة شامبليون حتى لا “تزعل” ملكة انجلترا، فكنوع من الحفاظ على التوازن الدبلوماسي بين الدولتين العظيمتين أمر الباشا بإهداء مسلة كانت موجودة بالإسكندرية لإنجلترا تخليدا لذكرى انتصار القائد نيلسون على الفرنسيين في معركة أبو قير البحرية أو كما تسمى في المراجع الأوروبية بـ “معركة النيل” .

وعلى الرغم من أن وعد الباشا كان عام 1831 إلا أن المسلة ظلت في مكانها منذ أن وضعت قبل ألفين عام في موقع ميدان محطة الرمل حاليا أمام فندق سيسيل بجوار مسلة أخرى حتى 21 يناير 1878م وذلك لصعوبة نقلها.

وكان من أعاد الحياة لوعد الباشا هو السفير الإنجليزي ايراسموس ويلسون الذي دعى إلى نقلها إلى لندن، لتكلف هذه العملية الخزينة البريطانية 10 آلاف جنية إسترليني، وهو مبلغ كبير وقتها!

وابتنى الجنرال ألكسندر ديكستون الرجل الذي كلف بنقل المسلة حاملة خاصة تشبه الأنبوبة من أجل هذه المهمة!

و قسمت هذه الحاملة إلى عشر غرف محكمة لا يتسرب إليها الماء، ثم شحنها إلى الإسكندرية مفككة  إلى أجزاء لتبنى من حول المسلة.

وفي الإسكندرية كان ينبغي قبل حمل المسلة تطهير المنطقة من حولها، حيث عثر أثناء ذلك على كثير من الآثار، ثم فجرت البيوت وكتل الأحجار الكبيرة في طريقها إلى البحر، كما حفرت قناة من المسلة إلى المياة العميقة ثم وضعت المسلة داخل أنبوبتها الخاصة التي سميت “كيلوبترا” وقطرتها باخرة تدعى أولجا .

وفي 21 سبتمبر 1877 ابحرت أولجا قاطرة كليوبترا بمسلتها وهي في طريقها إلى انجلترا، وبمكننا أن نتخيل هذا المشهد الغريبة ونحن نرى سفينة بخارية تجر أنبوبة هائلة الحجم تشبه الكبسولة الفضائية، وتحتوي على مسلة فرعونية!

ولكن وكما قال الشاعر أبو الطيب المتنبي تأت الرياح بما لا تشته السفن ، فتعرضت السفينة بما تجره لرياح عاصفة،  قلبت الكيلوبترا على جانبها الأيمن، وعرضت السفينة الأساسية التي تقطرها أولجا للخطر!

وتحت الهواء والأمواج اضطر البحارة الإنجليز إلى أخذ قرار صعب في هذه اللحظة، وهو قطع الحبال التي تربط المسلة بالباخرة أوجا خوفاً على حياتهم، ويمكننا أن نتخيل نظرة الحسرة في عيون البحارة وهم يشاهدون حملهم يبتعد وسط الأمواج وحده حيث لن يعود.

وكانت العواصف والأمواج من الشدة بحيث تعرض بعض بحارة السفينة للغرق، وضلت كليوبترا طريقها في البحر بينما عادت الباخرة أولجا إلى إنجلترا.

وأصر السفير الإنجليزي على أن كيلوبترا بوسقها الثمين مازالت آمنه، وأنها سوف تظل طافية حتى تلتقطها سفينة أخرى، وهو ما حدث، فقد عثرت إحدى السفن الإسبانية عليها وأعادتها إلى إنجلترا سالمة!

وقامت الملكة فيكتوريا بمنح أرامل البحارة المفقودين قدراً كبيراً من المال، وتقرر حفر أسمائهم على قاعدة المسلة، وعلى الرغم من الطقس السيء الذي وضعت في اليوم الذي وضعت فيه المسلة على ضفاف نهر التايمز إلا أن الحضور كان قوياً لمشاهدة المسلة الفرعونية، ورحبت جريدة التايمز بوصولها في مقال طويل ولكنه ليس سعيد بالدرجة الكافية ، حيث كان فقدان البحارة قد أثقل ضمير إنجلترا!

ومثلها مثل مسلة فرنسا كانت الرحلة طويلة وبها العديد من الصعوبات ومنها صعوبات النقل والتحميل، حتى وصلت المسلة بعد أربعة شهور ووضعت في ميدان على نهر التايمز، بعد صنع تمثالين لأسدين أبو الهول وضعوا بجوارها ، ولكن في 4 سبتمبر  وأثناء الغارات الألمانية على لندن في الحرب العالمية الأولى سقطت قنبلة على الميدان وأصابت المسلة، وهو ما عرضها للتلف، ولكن لم يقوم بترميمها الإنجليز حتى الآن لتكون شاهدا على الإعتداءات على لندن أثناء الحرب!

مسلة أمريكا

بالتأكيد وكأي حاكم في ذلك العصر أراد الخديو إسماعيل إستعمال حقه في التفريط في الآثار المصرية، وكانت كل من فرنسا وإنجلترا قد أخذتا مسلات مصرية بأوامر جده، ولذلك فقد نظر نظرة متفحصة على الخريطة، ثم وقعت عيناه على ذلك الجزء الغربي في أقصى حدود العالم ، وقال :

– ها!، هذه لم تأخذ بعد.

وأشار إلى أمريكا!

بالتأكيد هذا المشهد الهزلي لم يكن حقيقياً، ولكننا لا نعرف السبب الحقيقي الذي أجبر الخديو إسماعيل إلى أهداء مسلة لأمريكا في ذلك الوقت، عندما وافق على إعطاء أمريكا المسلة الباقية في ميدان الرمل والتي كانت شقيقة مسلة إنجلترا،وهي العملية التي تمت في  عام 1879م.

وللتقريب فما حدث أن الصحف الأمريكية في  مارس 1877  كتبت تقول:

«إذا كان لدى باريس واحدة وإنجلترا في سبيل الحصول على مسلتها، فلماذا لا تحصل نيويورك على واحدة؟».

وبغض النظر عن التعامل مع القطع الأثرية التاريخية المصرية وثروات الملك تحتمس على أنها قطع شكولاتة لا يوجد عدل في توزيعها على الصغار فإن هذا ما حدث.

وعل الرغم من معارضة المتنورين مثل مارييت باشا  – الرجل الذي يرجع له الفضل في إنشاء متحف بولاق ، والذي كان يعمل وقتها مديراً لمصلحة الآثار المصرية – حيث استشاط غضباً من هذه الهبة وقال:

«هناك متحفان في مصر أحداهما هو متحف بولاق، والاخر هو مصر بأسرها، التي تمثل بكل خرائبها الممتدة المنتشرة على كلتا ضفتي النيل من الدلتا حتى الشلال أجمل متحف في العالم بأسره، فلماذا نقلل من أهمية هذا المتحف الثاني الذي يأتي العالم كله كل شتاء لتأمله؟ إن هناك مبدأ عاماً سارياً في كل المتاحف، وهو أن المتحف يمكنه أن يتلقى ولكنه يجب أن لا يعطي، فماذا لو طلبت مصر من فينوس ميلو من اللوفر، أو حجر رشيد من لندن، أو أي أثر من مجموعة أبوت في أمريكا، إن أحداً لن يعطيها هذه الهدية، فلماذا تعامل مصر بطريقة تختلف عن المتاحف الأخرى؟»

إلا أن الخديو قد وافق على إهداء أمريكا المسلة.

ويمكن أن نقول أن الموافقة جاءت بعد عدد من خطابات استجداء من عدد من الوزراء الأمريكيون، جاء فيها مطالبات باسم الشعب الأمريكي ، وقالت إحداها:

«إن النظرة تلك النظرة المتعطفة – يقصد هبة المسلة – سيحييها كل فرد من أفراد نيويورك بل كل شعب الولايات المتحدة الأمريكية كدليل جديد على الحكمة والكياسة التي بديها سموكم كرابطة تربط جمهور الولايات المتحدة بحكومة سموكم والشعب المصري»!

ولأن الخديو كان عطوفاً، فقد منح الرجل للأمريكان المسلة!

وبالفعل عهد إلى «هنري هونيشورش جورنج» القائد في البحرية الأمريكية بنقل المسلة، واستخدمت السفينة البخارية “دسوق”  لنقلها، وهي السفينة  التي أبحرت في 12 يونيو 1880 ، بعدما استمرت عملية انزال المسلة وشحنها حوالي ثمانية أشهر بمساعدة مختلف الوسائل الحديثة اتي أعدت سلفاً لهذا الغرض.

إستغرقت الرحلة أربعة أشهر ، تحديداً 112 يوم حتى وصلت إلى نهر هيدسون، وقد احتاجت الى ستة أشهر من أجل إنزالها إلى البر من يوم وصولها في نيويورك ، حيث استخدم أكثر من ثلاثون حصاناً  من أجل جرها ، وقد كتبت جورنج :

«إن هذا الحجر هو أكبر وأثقل ما حرك على عجل لدينا ودون في سجل مكتوب»!

ومن ثم نُقلت المسلة إلى سنترال بارك غرب متحف المتروبوليتان للفنون في مانهاتن، حيث وصلت المسلة في 5 يناير 1881، وأحتفل بإقامة المسلة داخل الحديقة، بحضور أكثر من 50 ألف شخص، ووضعوا أسفلها صندوقاً أسوداً داخله تاريخ نقل المسلة، وقاعدة بتعداد سكان أميركا في عام 1870م ونسخة من الأنجيل وقاموس «Webster»، والأعمال الكاملة لشكسبير، ودليل عن مصر، ونسخة من وثيقة استقلال أميركا!

وقد دُفنت كل هذه الوثائق أسفل المسلة لتصبح تاريخا جميلا لنقل المسلة لمدينة نيويورك..

والمنطقة المجاورة للمسلة يظهر جمالها في الربيع من خلال الورود والأزهار، ولكن المسلة يصعب رؤيتها من خارج سنترال بارك بسبب الأشجاره الضخمة، ولكنها ورغم ذلك تظهر بسهولة في خطابات الرؤساء الأمريكيين على التلفاز على الرغم من أنها صنعت في الأساس تخليداً للإله رع إله الشمس المصري!

وظلت هذه القطعة المصرية النادرة شاهدة على العظمة المصرية في قلب القارة الأمريكية لمدة مائة عام ويزيد حتى أصابتها الظروف الجوية ومناخ مدينة نيويورك والأمطار الحمضية بالتلف، وفي عام 2010 أرسل الدكتور زاهي حواس خطاباً شديد اللهجة إلى عمدة نيويورك يصر فيه على بذل الجهود لترميم المسلة، وإذا لم يتمكنوا من رعاية الأثر، فإن مصر سوف تتخذ الخطوات اللازمة لإعادة هذه القطعة الثمينة إلى منزلها، وإنقاذها من الخراب!.

 مسلة فرنسا

كانت أجمل المسلات المصرية هي التي خرجت من معبد الأقصر إلى باريس. ولهذه المسلة قصة طريفة. حيث حضرت فرقة عسكرية كاملة من أجل إحضارها، وخاضت مغامرة طويلة من أجل الوصول لهناك ونصبها. ولكن تفاصيل تلك الرحلة في مقال قادم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!