تقاريرسلايد

نقل عبر البحر.. حكاية آخر معبد في الحضارة المصرية القديمة

نقل عبر البحر.. حكاية آخر معبد في الحضارة المصرية القديمة

كتب – أحمد المرسي

آخر معبد.. لم تتوقف هجمات الغزاة على مصر منذ 525 ق.م وحتى بدايات القرن العشرين، فبعد الفرس جاء اليونانيون وبعد اليونانيون جاء الرومان، ومن ثم الفتح العربي لمصر، ومن ثم الأتراك، وطوال هذه الفترات كانت مصر نهباً لأيدي العابثين.

وسرقت العديد من الكنوز الثمينة، وكان أحد أغرب هذه السرقات هي سرقة الإمبراطور جستنيان لمعبد بالكامل نقله عبر البحر إلى القسطنطينية!.

بعد سنوات طويلة من نضال المسيحية للسيطرة على مقاليد الأمور في الإمبراطورية الرومانية، أصبح الحلم حقيقة عندما أقر الإمبراطور “ثيودوسيوس الأول” المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية،في عام 391 م، وأصدر مرسوماً بإغلاق كل المعابد الوثنية القديمة في الإمبراطورية.

زمن إضطهاد الوثنيين:

عرفت هذه الفترة باسم “زمن اضطهاد الوثنين”، وجاءت بعد فترة “إضطهاد المسيحيين”، بدأ الإضطهاد المسيحي للديانات الوثنية داخل الإمبراطورية بناء على مراسيم أنفذها وسميت بالمراسيم “الثيودوسية” والتي نصت على جعل العطلات الوثنية أيام عمل، وحظرت تضحيات الدم، وأغلاق المعابد الوثنية، ومصادرة ثروات المعابد، وإنهاء عمل عذارى فيستال، ومعاقبة السحر، ورفض استخدام مذبح النصر في مجلس الشيوخ، وأوقف الألعاب الأوليمبية!

وفي مصر كانت الديانة المصرية القديمة في طور الإضمحلال بطبيعة الحال، ولم يكن غير بعض الكهنة منزون في معابدهم البعيدة، ومع موجة الإستقواء بالإمبراطور قام المسيحيون بمهاجمة معاقل الوثنيون الذين لازالوا يدينون بالديانة المصرية القديمة وهدموا السيرابيوم القائم في الإسكندرية ، ويمكننا أن نتخيل المشهد كارثي وعشرات الرهبان المتحمسين يهجمون على المعبد من أجل تدميره، ويصف لنا ذلك اليوم أحد المؤرخين الوثنيين:”دُمر السيرابيوم بدون سبب معقول، وبدون أدنى مؤشر لحرب أهلية وسرقت التماثيل وبقيت فقط أرضية المعبد على حالها لثقل وزن أحجارها. بعد ذلك التدمير تفاخر الهادمون أنهم قد حطموا الآلهه ودخل إلى هذه الأماكن ما يسمى بالرهبان وهم بشر في هيئتهم ولكن مثل الخنازير في ملبسهم ومأكلهم”.

ولم يكن ما حدث للسيرابيوم في الإسكندرية في هذه الأيام حدثاً فردياً ولكن تعدد حوادث الهجوم على المعابد القديمة بعد ذلك وتم استخدامها، ككنائس أو دور للرهبان بعد ذلك.

بعد وفاة الامبراطور ثيودسيوس الذي كان آخر إمبراطور للإمبراطورية الرومانية إنقسمت الإمبراطورية إلى شرقية “بيزنطية” وغربية، وكانت مصر في الجانب الشرقي.

جستنيان وثيودورا!

وفي  أغسطس عام 527م تولى الإمبراطور جستنيان سدة الحكم في الإمبراطورية البيزانطية خلفاً لجستن الأول، وكانت الأزمات تكاد تعصف بالإمبراطورية، فمن جهه جدد الفرس الحرب على الحدود، وفي شوارع القسطنطينية كانت الإضطرابات قد بلغت أوجها، فطوال التاريخ البيزنطي كان هناك حزبين “الخضر والزرق” وقد كانا في البداية فريقين رياضيين متخصصين في سباقات الخيول ، مثل الأهلى والزمالك في عصرنا، ولكل منهما ألتراس، وقد إنقلب الأمر إلى ان يكون لهذين الحزبين وجود وثقل سياسي في الإمبراطورية، وكان يغلب عليهما التناحر، ولكن لسوء طالع جستنيان فقد إتفق الحزبان عليه من أجل اسقاطه، حيث اشتعلت الثورة في شوارع المدينة في عام 532م للدرجة التي جعلت جستنيان في حالة رعب، وفكر في الهروب، لولا شجاعة زوجته ثيودورا التي لولا جرأتها وشجاعتها لضاعت الإمبراطورية البيزنطية وذهبت في طي النسيان، حيث أقنعته بالعدول عن هذه الفكرة ، وأشارت عليه بالمقاومة. وتعهد  القائد الشهير بليساريوس أن  يقوم بهذا العمل ، واختار من بين جنوده عدداً من القوط ، وسار على رأسهم إلى ميدان الألعاب ، وقتل ثلاثين ألفاً من العامة. وظل جستنيان بعد هذه الفتنة آمناً على نفسه وملكه خلال الثلاثين عاماً التالية.

المعبد الأخير:

وبسبب هذه الإضطرابات السياسية الكثيرة، كان جستنيان بحاجة إلى مغازلة العامة، في جميع أنحاء الإمبراطورية وخاصة في مصر، التي تعتبر واحدة من أكبر الولايات البيزنطية، وتابعة له بصفة شخصية، ولأن أغلب سكان البلاد من المسيحيين، فقد أمر بإغلاق معبد إيزيس في فيلة بحجة مؤازرة المسيحيين.

وكان معبد فيلة معبد معزولاً عن مصر بالكامل، حيث أخذ اسم فيلة في الأساس من كلمة “فيلاي” وتعني بالإغريقية “الحبيبة” ، ويقصد هنا “إيزيس”، وكان إسم المعبد باللغة المصرية القديمة “بيلاك” أو “بيلاخ” وتعني الحد أو النهاية لانها كانت أخر حدود مصر في الجنوب!.

كان لهذا المعبد الواقع عند حدود البلاد المصرية مركز خاص، لأنه كان يكفل الحاجات الدينية لشعبين في وقت واحدة، وكان سادته هم ملوك، الإغريق وأباطرة الرومان، غير أنه كان يسمح للأثيوبيين بدخوله والإنتفاع به، وتدل النصوص العديدة باللغة الأثيوبية على مدى ما ابداه أهل الجنوب من حماس في الحج إلى فيلة، وفي هذا المعبد وجدت آلهة البرابرة أيضاً مكانها، ومنها أرسنوفس وإله الشمس مندولس، وكان بدو الصحراء ، البليميون يحجون إلى إيزيس في فيلة، ولم يكن للحكومة الرومانية التي سبب لها هولاء الرحل كثيراً من المتاعب إلا أن تسمح لهم بممارسة عبادتهم في فية، وقد سمحت بيزنطة في البداية لهم بممارسة العبادات في المعبد.

ولكن من أجل التقرب إلى العامة أصدر جستنيان مرسومه الذي أمر بإغلاق المعبد، ولكنه لم يكتفي بهذا، بل قام بإعتقال كهنته أجميعن، ومن اتخذ أغرب قرار من الممكن أن يتخذه إمبراطور مسيحي تقي مثله، حيث أمر بنقل كافة تماثيل الآلة إلى القسطنطينية، وأحجار الأسقف، وهو ما تم بالفعل ، حيث تم تجريد المعبد العتيق من تماثيله البديعة ، ونقلت عبر البحر إلى عاصمة الإمبراطورية الجديدة.

ويعتبر العارفون بالتاريخ معبد فيلة أو إيزيس آخر معقل للديانة المصرية القديمة وآخر قلاع اللغة الهيروغليفية التي كان بإلقبض على كهنة معبدها يضع جستنيان الفصل الأخير في  تاريخ اللغة الهيروغليفية القديمة!.

 

أقرأ أيضًا:

زينب البكري.. حفيدة أبو بكر التي باعها أبوها لنابليون بونابرت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!