تقاريرسلايد

6 أكتوبر 1973.. “يوم في حياة المصريين”

6 أكتوبر 1973.. "يوم في حياة المصريين"

كتب- أحمد المرسي

 

6 أكتوبر – 1973

يتعجل السيد محسن الموظف بمجمع التحرير العودة إلى المنزل في الساعة الواحدة ظهرًا، وهو يرتدي البذلة الصيفية الخفيفة.. والحقيقة أنه برغم أن الصيف قد انتهى رسميًا ولكنه لازال يحب ارتداءها حتى شهر نوفمبر.

علّم عبد الناصر الموظفين المصريين لبس البدلة الصيفي. كان هو نفسه يلبسها منذ أعوام قليلة مضت. فالبذلة الصيفي هي شعار الموظفين الكادحين وهي زي محاربي الاستعمار والرأسمالية.

يستقل محسن الأتوبيس “ماركة نصر” بلونه الأحمر المميز حتى الشارع الرئيس لمنزله في الهرم وهو يحمل تلك العلبة الكرتون تحت ذراعه، ثم ينزل بمهارة تعلمها من تكرار نزوله بهذا الشكل يوميًا، والأتوبيس لم يتوقف بعد. ويسير بخطوات مسرعة يجفف عرقه بمنديل محلاوي باليد الأخرى.

الساعة قاربت الثانية ظهرًا، والطريق من الشارع الرئيسي لمنزله لا يأخذ أكثر من 10 دقائق.

يفكر محسن في مصاريف دخول المدارس. بدأت المدارس منذ أسبوع. واليوم هو العاشر من رمضان. محلات الكنافة في طريقه تجعله يشتهي الطعام في تلك الساعة ولاشك. ولكنه يصبّر نفسه بالتفكير في دخوله البيت ويتخيل نفسه أنه يبدل تلك البدلة الصيفي ويرتدي البيجامة الكستور المريحة، ثم ينام حتى آذان المغرب.

بالأمس طلبت منه زوجته “نوال” أن يشتري حذاءًا جديدًا للولد “ممدوح”: “علشان دخلة المدارس”. تململ عند سمع الطلب، لأنه كان قد اشترى له حذاءًا منذ ثلاثة شهور، مزقه الولد بلعبه.

تذكر ذلك الإعلان الذي قرأه من أسبوع من أن الحكومة ستطرح بالأسواق نصف مليون “حذاء شعبي” سعر الجوز منه يتراوح من 95 قرشًا لجنيهين بمناسبة دخول المدارس. ولكن نوال قالت له “إنت عاوز الناس تاكل وشنا”. ولهذا فقد استمع لنصيحة سامي زميله والذي أخبره عن المتاجر الشعبية في الفجالة؛ محلات جديدة أمر السادات بافتتاحها الشهر الماضي، بهدف القضاء على السوق السوداء، ومحاربة الغلاء، توفر سلع رخيصة بجودة ومتانة المنتجات باهظة الثمن، وتبيع كل ما يخص الأسرة المصرية.

ذهب هذا الصباح للفجالة وقام بشراء الحذاء على مقاس الولد وها هو يعود حالمًا بساعتين راحة قبل المغرب. يحسب في رأسه ميزانية الشهر، حمد الله أنه انتهى من دفع ايجار هذا الشهر في موعده 9 جنيهات يوم 1.

عندما يصل لتلك النقطة من التفكير يتذكر دائمًا حديث نوال عن الفيلا التي تسكن فيها أختها زينب في الدقي بإيجار 39 جنيه في الشهر، ويمط شفتيه في ضيق.

عندما يرى محسن مدخل منزله يشعر بالارتياح، يتذكر بروده بئر السلم، فيطمئن قلبه. صعد المنزل هذه المرة متحاملًا على الدرابزين، وأسفل ذراعه لازالت علبة الحذاء، عندما اقترب من المنزل شم رائحة الطبيخ القادمة من الداخل؛ نوال أفضل من يطبخ الملوخية في الحي بالكامل، يستطيع أن يشم رائحة “طشتها” من أول الشارع!

دخل المنزل فركض نحوه ممدوح الذي عاد مبكرًا من المدرسة في هذا اليوم. يصيح فيعطيه الحذاء، وتخرج نوال من المطبخ بجلبابها وعلى ملامحها ابتسامة متسعة، بينما محسن جالسًا يفترش الكنبة يلتقط أنفاسه. يحب أن يلمح نظرة الرضى تلك على وجهها. “تعيش وتجيبله”. تلك الكلمة كفيلة بأن تهون عليه الكثير.

انهمك محسن في مشاهدة ممدوح وهو يقيس حذاءه، ولكن عندما همّ بأن يقوم ليبدل ملابسه، سمع ذلك الدق على الباب بقوة.

“يا ساتر يا رب”.

فتح الباب فإذا بجارتهم تدخل بسرعة وهي تصيح:

  • انتم قاعدين كدة ولا دريانين باللي بيحصل
  • خير يا ست إلهام؟
  • شغلوا الراديو بالعجل..

يتعجب محسن، ويتساءل ولكنها لا تعطيه الفرصة، فهي تعرف موضع الراديو في الصالة من خلال زيارتها الدائمة، فتشغل  الراديو وتجلس تستمع للبيان الذي تم إذاعته في الساعة الثانية وعشر دقائق:

“قام العدو الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقتي الزعفرانة والسخنة بخليج السويس بواسطة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربي للخليج، وتقوم قواتنا حالياً بالتصدي للقوات المغيرة.. هنا القاهرة”.

ترتسم إمارات الضيق على وجه محسن، ويلعن إسرائيل بصوت مرتفع، ثم يدخل الغرفة ليبدل ملابسه بهدوء. فيما تستأذن نوال من إلهام لكي “توطي على النار، أحسن الأكل يتحرق”. وتأتي لتجلس معها.

كان ذلك البيان رقم “1” والذي تم إذاعته في الإذاعة المصرية. والتي كان العمل فيها يجري على قدم وساق.

خلف الميكروفونات كان الإذاعي حلمي البلك جالسًا يقاوم حماسه الشديد، فقد جائتهم التعليمات بالالتزام بالهدوء. وهو الآن ينتفض من داخله، ولكنه يسيطر على ذلك الانفعال ويتعامل باحترافية.

اجتمع الرئيس السادات مع وزير الإعلام عبد القادر حاتم للتنسيق على كيفية تغطية الحرب. أخبرهم السادات أنه يريد الموضوعية والمصداقية والأداء بإتزان.

لم يكن السادات ينوي هذه المرة خداع الشعب مثلما حدث من قبل.

حلمي البلك
حلمي البلك

كانت تعليماته بأن تكون التغطية محايدة، لا تطغى عليها الحماسة والتهويل، وفي نفس الوقت لا يطغى عليها التهوين.

تم جمع المذيعين ليلة الحرب، وتلاة هذه التعليمات على مسامعهم، وقد تم اختيارهم بمواصفات محددة منها الثبات الانفعالي، والقوة.وكذلك الحس الوطني المرتفع.

كان البيان الأول يظهر أن مصر تتعرض لهجوم إسرائيلي، وذلك كي لا يتم وضع البلاد في موقف حرج دوليًا. وإظهار الهجوم المصري باعتباره عملية رد على العدوان.

البيان رقم “1” يوم 6 أكتوبر بصوت حلمي البلك

دخل محسن للنوم وترك نوال مع جارتها إلهام.

“عدم المؤاخذة يا ست إلهام، أنت مش غريبة..”.

بدأ حديث المرأتين بلعن إسرائيل والحرب، ثم لم يلبث أن تطرق لمشاكل الحياة اليومية. تحدثت نوال عن عروض الملابس في عمر أفندي، والتخفيضات التي أعلنوا عنها على آخر موضات الخريف بالألوان الزاهية، والتي سيودعون بها الصيف. وتطرق حديثهم عن ارتفاع أسعار الذهب الذي ارتفعفصار الجرام عيار 21 بـ 133 قرش، وعيار 18 وصل لـ 114 قرش!

قالت إلهام بضيق: “هو في إيه اللي مغلاش يا نوال يا أختي!”.

منذ شهور قليلة ارتفع سعر كيلو اللحمة لـ 120 قرش، وهو ما دفع العاصمة لتنظيم حملات لمقاطعة الجزارين، لمدة 15 يوم، مما سبب خسائر فادحة لهم. ونجحت حملات المقاطعة في القاهرة وبني سويف والإسكندرية، فهبط السعر إلى 65 قرش للكيلو الواحد.

طرح وقتها السمك كبديل للحوم، حيث يتراوح الكيلو الواحد منه بين 16 إلى 25 قرشًا. وكيلو الفراخ البلدي 40 قرش.

لم تكن أسعار اللحوم هي فقط ما ارتفعت، كان سعر كيلو الطماطم 25 قرش، بينما الكوسة صارت بـ 12 قرش، والسكر صار بـ 25 قرش؟

“أمال نحلي بإيه؟”.

لم تكونا تعلمان شيئًا عن تدهور قيمة الدولار في ذلك العام. بسبب الأزمة الاقتصادية في أمريكا، والتي خفضت من قيمته. والحقيقة أن الجنيه المصري لم يتأثر بهذا الانخفاض، لأنه كان ممنوع من التداول خارج مصر في هذا الوقت.

في تمام الساعة الثانية ووالنصف تم إذاعة البيان رقم “2”. بصوت المذيع يحي عبد العليم ولم تكن إلهام قد غادرت بعد.

“رداً على العدوان الغادر الذي قام به العدو ضد قواتنا في كل من مصر وسوريا يقوم حالياً بعض من تشكيلاتنا الجوية بقذف قواعد للعدو وأهدافه العسكرية في الأراضي المحتلة”.

كان البيان الثاني غريبًا بالنسبة للمصريين، فهو لم يكن يتحدث هذه المرة عن عدوان إسرائيلي، ولكن ضربة وهجوم مصري على قواعد العدو في الأراضي المحتلة.

لابد أن نوال قامت بإيقاظ محسن في هذه اللحظة، فقام غير مستوعب، ولكن سرعان ما سمع مع زوج إلهام – السيد عبد الحق – الذي عاد من عمله بدوره في الساعة الثالثة، واستمعوا سويًا للبيان رقم 3 للقوات المسلحة:

“إلحاقا للبيان رقم (2) نفذت قواتنا الجوية مهاماً بنجاح وأصابت مواقع العدو إصابات مباشرة وعادت جميع طائراتنا إلى قواعدها سالمة عدا طائرة واحدة”.

كانت حالة من الشك قد اعترت جميع المصريين في هذه اللحظات، سواء في منازلهم أو في الشوارع، وهم يستمعون إلى البيانات المتتالية، ويعرفون أن شيء ما يحدث، ولا يعرفون ما هو. وقد أكد جميع من استمعوا إلى تلك البيانات، أنهم قد استمعوا لها بريبة، قياسًا على حالات الكذب التي عرفوها منذ 7 سنوات فقط في نكسة عام 1967.

نوال قالت:”إسرائيل بتدبر ملعوب من ملاعيبها!”. فردت عليها إلهام بلهجة الواعية:”معلوم”.

لم يصدق محسن أذنيه إلا مع إذاعة البيان رقم “5” في الساعة الرابعة عصرًا، قبل الإفطار، بصوت حلمي البلك.

 

“نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة واستولت على نقط العدو القوية بها ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة”

لم تعد حالة البرود هذه المرة مسيطرة على محسن الذي ادرك أن هناك شيء ما، حتى عندما تناول إفطاره مع جاريه عبد الحق وإلهام وزوجته، كانوا يتبادلون الحديث بحماسة واضحة، ولكن هذه الحماسة وصلت لذروتها عند الساعة السابعة والنصف بعد المغرب عندما تم إذاعة البيان رقم “7” والذي وضع الأمور في نصابها الصحيح. وعرف فيما بعد ببيان العبور.

“نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس على طول المواجهة وتم الاستيلاء على منطقة الشاطئ الشرقي للقناة وتواصل قواتنا حالياً قتالها مع العدو بنجاح ـ كما قامت قواتنا البحرية بحماية الجانب الأيسر لقواتنا على ساحل البحر الأبيض المتوسط وقد قامت بضرب الأهداف الهامة للعدو على الساحل الشمالي لسيناء وإصابتها إصابات مباشرة”.

حرب
حرب

كان آخر بيان خلال النهار هو البيان رقم “7” والذي امتدت بعده حالة كبيرة من الجدل، اتسعت في المقاهي والشوارع، شارك فيها محسن مع أصدقاءه خلال السهرة، وانتهت بآخار بيان في الساعة 12 بعد منتصف الليل وهو البيان رقم “8”.

“قام العدو بعد آخر ضوء اليوم بهجمات مضادة بالدبابات والمشاة الميكانيكية ضد قواتنا التي عبرت قناة السويس ومن اتجاهات مختلفة وقد تمكنت قواتنا من صد جميع هذه الهجمات وتدمير العدو وتكبيده خسائر كبيرة في الأفراد والمعدات ولا زالت قواتنا تقاتل بنجاح من مواقعها على الضفة الشرقية للقناة”.​

لم ينم محسن في تلك الليلة، وفي الصباح كان أول ما يفعله هو شراء الجرائد، ليشاهد عنواين الأخبار الضخمة، ووقتها لم يتمالك نفسه، وهو يشعر بضربات قلبه كالطبل في صدره. وعينيه تلتهم السطور إلتهامًا، ثم ابتسم في ارتياح!.

بعد مرور 49 عامًا على ذلك الحدث، وبعد وفاة السيد محسن، لازال ممدوح البالغ من العمر 65 عامًا – كلما مر عليه يوم 6 أكتوبر من كل عام ، وكلما نظر في وجه والدته نوال التي تجاوزت الثمانين- يتذكر ذلك اليوم الذي اشترى له فيه والده السيد محسن الموظف في الحكومة المصرية حذاءًا جديدًا للمدرسة. وانتصرت فيه مصر. ويشعر بالزهو.

 

أقرأ أيضا

“تماثلت للشفاء”.. قصة البطلة الحقيقية لمسلسل سارة وقصة الجزء الثاني منه

“من دمشق هنا القاهرة” .. هكذا رحل عبد الهادي بكار نجم الاذاعة السورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!